اللغة العربية إحدى أكثر لغات العالم استعمالاً، و إحدى اللغات الخَمْس الرسمية في هيئة الأمم المتحدة و مُنظَّماتها، و هي اللغة الأولى لأكثر من 467 مليون عربي، و اللغة الرسمية في 27 دولة عربية، كما يُجيدها أو يُلِمُّ بها نحو 200 مليون مُسْلم أو أكثر من غير العرب، إلى جانب لغاتهم أو لهجاتهم الأصلية.
و يُقبِل على تعلُّمها كثيرون آخرون من أنحاء العالم لأسباب تتعلَّق بالدين أو بالتجارة أو العمل أو الثقافة أو غير ذلك.
و العربية هي اللغة السَّامية الوحيدة التي قُدِّر لها أن تحافظ على كيانها و أن تصبح عالمية.
و ما كان ليتحقَّق لها ذلك لولا نزول القرآن الكريم بها، إذْ لا يمكن فَهْم ذلك الكتاب المبين الفَهْم الصحيح و الدقيق و تذوُّق إعجازه اللغويّ إلا بقراءته بلغته العربية.
كما أن التُّراث الغني من العلوم الإسلامية مكتوب بتلك اللغة، و من هنا كان تعلُّم العربية مَطْمَحًا لكلِّ المسلمين الذين يبلغ عددهم نحو مليار مُسلم في شتَّى أنحاء العالم، و يمكن القول إن أكثر من نصف سكان إفريقيا يتعاملون بالعربية.
خصائص اللغة العربية
لكل لغة خصائصها و هذا أمر طبيعي، بل و ضروري حتى يتمكن القارئ من تمييز كل لغة على حدة، و يتعرف على خصائصها و مميزاتها و ضوابطها و قواعدها.
فقام علماء اللغويات بوضع هذه القواعد و الضوابط و المميزات التي تنسب إلى كل لغة معروفة، و بالتالي سوف نضع بين أيديكم أهم خصائص اللغة العربية و قواعدها الخاصة.
الأصوات
تتميَّز اللغة العربية بما يمكن تسميته مركز الجاذبية في نظام النُّطق، كما تتميَّز بأصوات الإطباق، فهي تستخدم الأعضاء الخلفية من جهاز النُّطق أكثر من غيرها من اللغات، فتوظِّف جذْر اللسان و أقصاه و الحنجرة و الحَلْق و اللَّهاة توظيفًا أساسيًّا.
و لذلك فهي تحتوي على مجموعة كاملةً لا وجود لها في أيِّ لغة سامية فضلاً عن لغات العالم، و هي مجموعة أصوات الإطباق: الصَّاد و الضَّاد و الطَّاء و الظَّاء و القاف، و مجموعة الأصوات الخلفية، و تشمل الصَّوتين الجِذْريَّيْن الحَلْقيَّيْن: الحاء و العين، و الصَّوت القصي الطَّبقي: الغين، و الصَّوت القصي اللهوي: القاف، و الصَّوت الحنجري: الهمزة.
المفردات
يُعَدُّ مُعجم العربية أغنى معاجم اللغات في المفردات ومرادفاتها (الثروة اللفظية)، إذْ تضُمُّ المعاجم العربية الكبيرة أكثر من مليون مفردة.
و حَصْرُ تلك المفردات لا يكون بحَصْر مواد المعجم، ذلك لأن العربية لغة ٱشتقاق، و المادة اللغوية في المعجم العربي التقليدي هي مُجرَّد جذْر، و الجِذْر الواحد تتفرَّع منه مفردات عديدة، فالجذْر ع و د مثلاً تتفرَّع منه المفردات: عادَ، و أعادَ، و عوَّدَ، و عاودَ، و ٱعْتادَ، و تَعوَّدَ، و ٱستعادَ، و عَوْد، و عُود، و عَوْدة، و عِيد، و مَعَاد، و عِيادَة، و عادة، و مُعاوَدَة، و إعادة، و تَعْوِيد، و ٱعتِياد، و تَعَوُّد، و ٱسْتِعَادَة، و عَادِيّ.
يُضاف إليها قائمة أخرى بالأسماء المشتقَّة من بعض تلك المفردات، و كلُّ مفردة تؤدِّي معنًى مختلفًا عن غيرها.
و العربية تتطوَّر كسائر اللغات، فقد أُميتَتْ مفردات منها و ٱندثرت، و أُضيفَتْ إليها مفردات مُولَّدة و مُعَرَّبة و دخيلة، و قامت مجامع اللغة العربية بجهد كبير في تعريب الكثير من مصطلحات الحضارة الحديثة، و نجحت في إضافتها إلى المعجم المستَخدَم، مثل: سيَّارة، و قطار، و طائرة، و برقيَّة، و غير ذلك.
التلفُّظ و التهجِّي
تتكوَّن الألفباء العربية من 28 حرفًا، فضلاً عن ألف المدِّ، و كان ترتيب تلك الحروف قديمًا أبجديًا على النحو الآتي: أبجد هوَّز حطِّي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.
و تُكتب لغات كثيرة في العالم بالحروف العربية، مع ٱستبعاد أحرف و إضافة أخرى، منها الفارسية، و الأُردية، و البَشْتُو، و لغة الملايو، و الهَوْسا، و الفُلانيَّة، و الكانوري.
إقرأ أيضا: لغة الهوسا فولاني ، أغرب لغة تواصل.
و كانت التُّركيَّة و السَّواحيليَّة و الصُّوماليَّة تُكتَب إلى عهد قريب بالحروف العربية، و تعتمد العربية على ضَبْط الكلمة بالشَّكْل الكامل لتؤدِّي معنًى محدَّدًا، فالكلمات: عَلِمَ، و عُلِم، و عَلَّمَ، و عِلْمٌ، و عَلَمٌ، هذه الكلمات كلها مُتَّفِقة في التَّهجِّي، مختلفة في التَّلفُّظ و المعنى.
إلا أن مُجيد العربية يمكنه أن يفهم معنى الكلمة دون ضَبْط من خلال السِّياق، و كان القدماء يقولون: شَكْلُ الكتابِ سُوءُ ظنٍّ بالمكتوب إليه، و من سِمات العربية أن تهجِّي الكلمة فيها موافقٌ للتلفُّظ بها، و هذه ميزة تمتاز بها العربية عن بعض اللغات الأوروبية، و هي ظاهرة عامة في العربية، إلا في بعض الحالات القليلة، كنُطق ألف لا يُكتب في نحو: هَذَا، و لكنْ، و كتابة الألف الليِّنة على هيئة ياء، نحو: مَضَى الفَتَى.
الصَّرْف
تقوم الصِّيغ الصَّرفية في العربية على نظام الجِذْر، و هو ثلاثي غالبًا، رباعي أحيانًا.
و يُعبِّر الجِــذْر و هو شيء تجريدي عن المعنى الأساسي للكلمة، ثمَّ يُحدَّد المعنى الدقيق للكلمة و وظيفتها بإضافة الحركات أو مقاطع من أحرف مُعيَّنة في صَدْر الكلمة أو وسطها أو آخرها.
و تُقسِّم العربية الإسم إلى جامد و مُشتقّ، ثم تُقسِّم الجامد إلى أسماء الذَّوات المادية مثل: شجرة، و أسماء المعاني، مثل: قراءة، و مصادر الأسماء المشتقَّة، مثل: قارئ، و مقروء.
و لا تعرف العربية الأسماء المركَّبة إلا في كلمات نادرة تُعَبِّر عن الأعلام، مثل: حَضَرَمَوْت، المركَّبة تركيبًا مَزْجيًّا، و جاد الحقّ، المركَّبة تركيبًا إسناديًّا، إلا أن المضاف و المضاف إليه يرتبطان ٱرتباطًا وثيقًا، يصل أحيانًا إلى حالة شبيهة بالتركيب، و خاصة في الأَعلام، مثل: عبد الله، و صلاح الدِّين.
و تتميَّز العربية عن لغات كثيرة بوجود صيغة للمُـثـنَّى فيها، و تنفرد هي و الحبشية عن سائر اللغات السَّامية بإستعمال جمع التَّكسير، فإلى جانب الجمع السَّالم الذي ينتهي بنهاية تَلْحَق الإسم، كما هي الحال في اللغات الأوروبية، تصوغ هاتان اللغتان جمع التَّكسير بتغيير الاسم داخليًّا.
و تُصنِّف العربية أسماءها إلى مذكَّر و مؤنَّث، و تترك المذكَّر دون تمييزه بأيِّ علامة، و تميِّز طائفة من الأسماء المؤنَّثة، إمَّا بالتَّاء، مثل: شجرة، و إمَّا بالألف المقصورة، مثل ليلى، و إمَّا بالألف الممدودة، مثل: صحراء، ثم تترك الطائفة الأخرى من الأسماء المؤنَّثة دون علامة، مثل: شَمْس، و نَفْس.
النَّحو
من خصائص درس النحو الإسناد، و الإسناد هو نواة الجملة العربية، و يُمثِّل في ذاته جملةً بسيطة: إسميَّة أو فعليَّة.
و يتكوَّن الإسناد إما من مبتدأ و خبر، و إما من فعل و فاعل أو نائب فاعل، ثم يمكن تنمية تلك الجملة البسيطة بالفضلات أو المكمِّلات المفردة.
ثم تتكوَّن الجملة المركَّبة من جملتين بسيطتين أو أكثر، و يتمُّ هذا بالربط بين الجمل البسيطة بأدوات معيَّنة أو بالضمائر، فتنشأ من ذلك الربط دلالاتٌ كالشَّرط أو الملابسة أو الوصفية أو العطف أو غيرها.
و يقوم الإسناد في الجملة الإسمية بغير رابط ممَّا يُسمَّى في اللغات الأوروبية بأفعال الكينونة، و كذلك تقوم الإضافة دون رابط، و يُراعى أن يكون المضاف خاليًا من أداة التعريف.
و حين يَدْخُل الإسم المُعرب في جملة فلا بُدَّ له أن يتَّخذ حالة من ثلاث حالات: إما أن يكون مُعرَّفًا بأل، أو مضافًا، أو مُنَوَّنًا، و لا تجتمع حالتان من تلك الحالات في الإسم الواحد.
و تعتمد العربية في تركيب الجملة على قرائن تُعين على تحديد المعنى، و تتمثَّل في العلامة الإعرابية، و البِنْية الصَّرفية، و المطابقة، و الرُّتبة، و الرَّبط، و الأداة، و النَّغمة، و العربية من اللغات السَّامية القليلة التي إحتفظت بنظام الإعراب.
و يستطيع مُجيد العربية أن يقرأ نصًّا غير مضبوط، و ينطق العلامات الإعرابية نُطقًا صحيحًا، كما يستطيع من خلال ذلك أن يفهم النص فهمًا تامًّا، و الرُّتبة في العربية محفوظة (أي: واجبة)، و غير محفوظة (أي: جائزة)، و عُرفية.
فالرُّتبة المحفوظة مثل: وجوب تقديم الفعل على الفاعل، و المضاف على المضاف إليه، و الإسم الموصول على صلته، و المتبوع على التابع إلا في حالة العطف بالواو.
و الرُّتبة غير المحفوظة متروكة لتصرُّف المتكلِّم حسب مقتضيات السِّياق، مثل رتبة الخبر، و رتبة المفعول به، و رتبة الحال، و رتبة المعطوف بالواو مع المعطوف عليه.
و الرُّتبة العُرفية هي ماجرى عليه عُرْفُ العرب، و لا يُعَدُّ الخروج عنه خطأ نحويًّا، مثل تقديم الليل على النهار، و تقديم العاقل على غير العاقل، و تقديم الذَّكَر على الأنثى.
و تنقسم الكلمة في العربية إلى إسم و فِعْل و حَرْف، و لكنَّ بعض الباحثين المعاصرين قسَّموها تقسيمات أخرى لم تطبَّق حتى الآن في برامج تعليم العربية.
و من أهم خصائص العربية ميلها إلى الإيجاز المعبِّر عن المعنى، وتلجأ في سبيل التعبير عن المعاني المختلفة و مناسبتها للمقام إلى وسائل، منها: التقديم و التأخير (و هو الرُّتبة غير المحفوظة)، و الفَصْل و الوَصْل، و الحَذْف، و التَّأكيد، و القَصْر، و المجاز.
الخَط العربي
يحتلُّ الخطُّ العربيُّ مكانة فريدة بين خطوط اللغات الأخرى من حيث جماله الفنِّي و تنوُّع أشكاله، و هو مجالٌ خصب لإبداع الخطَّاطين، حيث بَرَعُوا في كتابة المصاحف، وتفنَّنوا في كتابة لوحات رائعة الجمال، كما زَيَّنوا بالخطوط جدران المساجد و سقوفها.
و قد ظهرت أنواع كثيرة من الخطوط على مرِّ تاريخ العربية، و الشَّائع منها الآن: خطوط النَّسخ و الرُّقعة و الثُّلُث و الفارسي و الدِّيواني، و الكوفي و الخطوط المغربية.
تطوُّر اللغة العربيَّة
الأُصول
اللغة العربية إحدى اللغات السَّامية، و هي تنتمي إلى الفرع الجنوبي من اللغات السًامية الغَرْبية، و يشمل هذا الفرع شمالي الجزيرة العربية و جنوبيها و الحبشة.
و قد نشأت العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة، و يرجع أصلها إلى العربية الشمالية القديمة التي كان يتكلَّم بها العدنانيُّون، و هي مختلفة عن العربية الجنوبية القديمة التي نشأت في جنوبي الجزيرة و عُرفَتْ قديمًا باللغة الحِمْيَريَّة و كان يتكلَّم بها القحطانيون، و تُعَدُّ النقوش القليلة التي عُثِرَ عليها الدليل الوحيد لمعرفة المسار الذي سارت فيه نشأة العربية الفصيحة.
و يمكن القول من خلال تلك النقوش إن أسلاف العربية الفصيحة هي: الثَّمودية و اللحيانية و الصَّفويَّة، و تشمل معًا فترة تقارب ألف عام، إذْ يُؤرَّخ أقدم النقوش الثمودية بالقرن الخامس قبل الميلاد، ويُؤرَّخ أحدثها بالقرن الرابع أو الخامس الميلاديين، وترجع النقوش اللحيانية و الصَّفوية إلى زمن يقع في الفترة ذاتها.
أمَّا أقدم نصٍّ وُجِدَ مكتوبًا بالعربية الفصيحة فهو نقش النَّمارة الذي يرجع إلى عام 328م، و لكنه كان مكتوبًا بالخط النَّبطي، و يُلاحَظ في ذلك النَّص التطوُّر الواضح من الثّمودية و اللِّحيانية و الصَّفَوِية إلى العربية الفصيحة.
و أمَّا أقدم نصٍّ مكتوب بالخط العربي، فهو نَقْشُ زَبَد الذي يرجع إلى سنة 513م، ثم نَقْشَا حَرَّان و أم الجِمَال اللذان يرجعان إلى عام 568م.
و قد لوحظ أن الصورة الأولى للخَـط العربي لا تبعـد كثيرًا عن الخــط النَّـبطي، و لم يتحـرَّر الخط العربي من هيئته النَّبطية إلا بعد أن كَتَبَ به الحجازيُّون لمدة قرنين من الزَّمان.
و ظلَّت الكتابة العربية قبيل الإسلام مقصورة على المواثيق و الأحلاف و الصُّكوك و الرسائل و المعلَّقات الشعرية، و كانت الكتابة آنذاك محصورة في الحجاز.
و يُعدُّ القرن السابق لنزول القرآن الكريم فترة تطوُّر مُهمَّة للعربية الفصيحة، وصلَتْ بها إلى درجة راقية، و يدلُّ على ذلك ما وصل إلينا على ألسنة الرُّواة من الشِّعر و النَّثر الجاهليين.
اللغة العربية بعد نزول القرآن الكريم
كان نزول القرآن الكريم بالعربية الفصحى أهمَّ حَدَث في مراحل تطوُّرها، فقد وحَّد لهجاتها المختلفة في لغة فصيحة واحدة قائمة في الأساس على لهجة قريش، و أضاف إلى معجمها ألفاظًا كثيرة، و أعطى لألفاظٍ أخرى دلالات جديدة، كما ٱرتقى ببلاغة التراكيب العربية.
و كان سببًا في نشأة علوم اللغة العربية كالنحو و الصرف و الأصوات و فقه اللغة و البلاغة، فضلاً عن العلوم الشرعية، ثمَّ إنه حقَّق للعربية سعة الإنتشار و العالمية.
لقد حَمَلَت العربية الفصيحة القرآن الكريم، و ٱستطاعت من خلال ٱنتشار الإسلام أن تبدأ زَحْفَها جنوبًا لتحلَّ محلَّ العربية الجنوبية القديمة، ثمَّ عَبَرَت البحر الأحمر إلى شرقي إفريقيا، و ٱتَّجهت شمالاً فقَضَتْ على الآرامية في فلسطين و سوريا و العراق، ثم زَحَفَتْ غربًا فحلَّت محلَّ القبطية في مصر.
و ٱنتشرت في شمال إفريقيا فَخَلَفَتْ لهجات البَرْبَر، و ٱنفتح لها الطريق إلى غرب إفريقيا و السودان، و من شمال إفريقيا ٱنتقلت إلى أسبانيا و جُزُر البحر المتوسط، كما كان للعربية أثرٌ عميق في لغات الشعوب الإسلامية، فتأثيرها واضح في الفارسية و الأردية و التُّركية و البَشْتُو و لغة الملايو و اللغات و اللهجات الإفريقية.
و من غير الممكن الآن معرفة لغة أيِّ بلد إسلامي و أدبه و مناحي تفكيره معرفة جيّدة دون الإحاطة الجيِّدة بالعربية، و حين أخذ الأوروبيون ينهلون من الحضارة الإسلامية في الأندلس دَخَلَتْ ألفاظ عربية كثيرة إلى اللغات الأوروبية، ففي الإنجليزية مثلاً ألفاظ عديدة ترجع إلى أصل عربي، كالجَبْر، و الكحول، و تَعْرِيفَة، و مَخْزَن، و عُود، و غير ذلك كثير.
اللغة العربية في العصر الأُموي
ظلَّت العربية تُكتَب غير مُعْجَمة (غير منقوطة) حتى منتصف القرن الأول الهجري، كما ظلَّت تُكتَب غير مشكولة بالحركات و السَّكنات، فحين دخل أهل الأمصار في الإسلام و ٱختلط العرب بهم، ظََهَرَ اللَّحْن على الألسنة، و خيف على القرآن الكريم أن يتطرَّق إليه ذلك اللَّحْن.
و حينئذ توصَّل أبوالأسود الدُّؤَليُّ إلى طريقة لضَبْط كلمات المصحف، فوَضَع بلَوْن مخالِف من المِداد نُقْطة فوق الحرف للدَّلالة على الفتحة، و نُقْطة تحته للدَّلالة على الكسرة، و نُقْطةً عن شِماله للدَّلالة على الضَّمَّة، و نقطتين فوقه أو تحته أو عن شِماله للدَّلالة على التَّنوين، و تَرَكَ الحرف السَّاكن خاليًا من النَّقْط، إلا أن هذا الضبط لم يكن يُستعمل إلا في المصحف.
و في القرن الثاني الهجري وضع الخليل بن أحمد طريقة أخرى، بأن جعل للفتحة ألفًا صغيرة مُضطجِعة فوق الحرف، و للكسرة ياءً صغيرة تحته، و للضمَّة واوًا صغيرة فوقه، و كان يُكرِّر الحرف الصغير في حالة التنوين، ثم تطوَّرت هذه الطريقة إلى ماهو شائع اليوم.
أما إعجام الحروف (تنقيطها) فتم في زمن عبد الملك ٱبن مروان، و قام به نصر بن عاصم الليثي، و يحيى بن يَعْمُر العَدْواني، كما قاما بترتيب الحروف هجائيًّا حسب ماهو شائع اليوم، و تركا الترتيب الأبجدي القديم (أبجد هوَّز).
و خَطَت العربية خطواتها الأولى نحو العالمية في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، و ذلك حين أخذت تنتقل مع الإسلام إلى المناطق المحيطة بالجزيرة العربية.
و في تلك الأمصار، أصبحت العربية اللغة الرسمية للدولة، و أصبح ٱستخدامها دليلاً على الرُّقي و المكانة الإجتماعية، و ظلَّت لغة البادية حتى القرن الثاني الهجري الحجَّة عند كلِّ إختلاف، و كان من دواعي الفخر للعربي القدرة على التحدُّث بالعربية الفصحى كأحد أبناء البادية.
أما سُكان الأمصار الإسلامية، فقد بدأت صلتهم بلغاتهم الأصلية تضعف شيئًا فشيئًا، و أخذ بعضهم يتكلَّم عربية مُوَلَّدة متأثِّرة باللغات الأم، و قد كانت منطقة الشام أُولى المناطق تعرُّبًا.
و يُلاحَظ ٱختلاف لهجات أهل الأمصار في العربية تبعًا لإختلاف القبائل العربية الوافدة، و من هنا كان ٱختلاف لهجات الكوفة و البصرة و الشام و العراق و مصر بعضها عن بعض.
و قبيل نهاية العصر الأُموي، بدأت العربية تدخل مجال التأليف العلمي بعد أن كان تراثها مقصورًا على شِعْر و أمثال على ألسنة الرُّواة.
اللغة العربية في العصر العباسي
شهد العصر العباسي الأول مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية في مشرق العالم الإسلامي وفي مغربه وفي الأندلس، وبدأت تلك المرحلة بالترجمة، و خاصة من اليونانية و الفارسية، ثم الإستيعاب و تطويع اللغة، ثم دخلت طَوْر التأليف و الإبتكار.
و لم يَعُد معجم لغة البادية قادرًا وحده على التعبير عن معاني تلك الحضارة، فحمل العلماء على عاتقهم مهمَّة تعريب مصطلحات غير عربية، و توليد صيغ لمصطلحات أخرى، و تحميل صيغ عربية دلالات جديدة لتؤدِّي معاني أرادوا التعبير عنها، و بهذا ٱستطاعت اللغة العربية التعبير عن أدقِّ المعاني في علوم تلك الحضارة الشامخة و آدابها.
و في مطلع ذلك العصر، بدأ التأليف في تعليم العربية، فدخلت العربية مرحلة تعلُّمها بطريق الكتاب، و كان هذا هو الأساس الذي قام عليه صَرْح العلوم اللغوية كالنحو و الصرف و الأصوات وفقه اللغة و البلاغة و المعاجم.
و على الرغم من ٱنقسام العالم الإسلامي إلى دويلات في العصر العباسي الثاني، و ٱتخاذ لغات أخرى للإدارة كالفارسية و التُّركية، فإن اللغة العربية بقيت لغةً للعلوم و الآداب، و نَمَت الحركة الثقافية و العلمية في حواضر متعدِّدة، كالقاهرة و حَلَب و القيروان و قرطبة.
العربية في العصر الحديث
حين ضَعُفَ شأن المسلمين والعرب منذ القرن السادس عشر الميلادي، وتعرَّضت بلادهم للهجمات الإستعمارية، رأى المستعمرون أن أفضل وسيلة لهَدْم تماسُك المسلمين و العرب هي هَدْم وحدة الدِّين و اللغة.
و قد حاولوا هَدْم وحدة اللغة بإحلال اللهجات العامية محلَّ العربية الفصيحة، و بدأت تلك الدَّعوة في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر الميلادي، فأخذ دعاتهم يروِّجون لفكرة كتابة العلوم باللغة التي يتكلَّمها عامة الناس، و طَفِقَ بعضُهم يضع قواعد للهجة أبناء القاهرة، و ٱقترح آخرون كتابة العربية الفصيحة بالحروف اللاتينية، إلا أن كلَّ تلك الدَّعوات أخفقَت إخفاقًا تامًّا.
و لكن كان من آثار تلك الهجمات الاستعمارية ضَعْفُ شأن العربية في بعض البلاد العربية، وخاصة دول الشمال الإفريقي، و ٱتخاذ اللغات الأوروبية وسيلة لدراسة العلوم و الفنون الحديثة فيما يُعرف بمدارس اللغات و في أغلب الجامعات.
و قد بدأت في البلاد العربية حركة نشِطة للتعريب تتمثَّل في اتجاهين: الأول، تعريب لغة الكتابة و التخاطب في بلاد الشمال الإفريقي، و الثاني تعريب لغة العلوم و الفنون على مستوى البلاد العربية كلِّها، و قد نجحت في الاتِّجاه الأخير سوريا و العراق، و أحرزت بلاد عربية أخرى بعض النجاح.
و تحدو القائمين بالجهد في هذا الاتجاه الثِّقة بأن العربية التي وَسعَت الحضارة الإسلامية في الماضي لن تكون عاجزة عن أن تَسَعَ الحضارة الحديثة.
و العربية الفصيحة اليوم هي لغة الكتابة، و تُستخدم لغةً للحديث في المحافل العلمية و الأدبية، و في الإذاعة و التلفاز، و أحيانًا في المسرحيات و الأفلام، و لها سحْرٌ عجيب إذا صَدَرَتْ عمَّن يجيدها.
أمَّا لغة التخاطب العامي فلهجاتٌ عديدة في العالم العربي، لكن اللغة العربية الفصيحة، مع ذلك، مفهومة فهمًا تامًّا في كلِّ أنحاء العالم العربي.